المادة    
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات! فقد تحدثنا إجمالاً في اللقاء الماضي عن النظرتين: النظرة اللادينية العلمانية والنظرة الكتابية المحرفة عن الإنسان, وعن نشأة الحضارة الإنسانية، وكيف وجد وظهر هذا الإنسان؟ وكيف كانت بداية عمله وكدحه وسعيه في الأرض؟ وكيف كان شعوره أو تصوره أو ملكاته أو مواهبه؟!
  1. النظرة العلمانية لنشأة الإنسان والحضارة

    وباختصار نعلم أن النظرة اللادينية العلمانية تفترض أن الإنسان جاء إلى الكون سدى وعبثاً، نشأ كما ينشأ أي حيوان إلا أنه متطور شيئاً ما، هائماً على وجهه يبحث عن صيد، يأكل أي شيء، لا يتقيد بحلال ولا يتقيد بحرام، ومع الزمن -كما يزعمون- ومع التطور تشكلت الأسرة أو المجتمعات البدائية على الصيد فترة طويلة، ثم على الرعي، إلى آخر ذلك الظن الذي لا يقوم على أي أساس ولا تحقيق من العلم؛ إنما يفترض أن الإنسان القديم -أو أول ما وجد وخلقه الله وأول ما ظهر الإنسان- على الصورة البدائية الموجودة مثلاً في أستراليا وفي الكنغو وفي المنطقة الاستوائية من أفريقيا وفي حوض الأمازون وما أشبه ذلك من المناطق والأقاليم البدائية.
    هذه النظرة الغالبة على التفكير اللاديني العلماني الأوروبي، وهؤلاء يمثلون الإنسان القديم، ثم تطور بعد ذلك حتى وصل إلى المرحلة المتحضرة التي يمثل نموذجها لديهم الإنسان الغربي الحديث في أوروبا الغربية وفي أمريكا ؛ هذا هو الإنسان عندهم.
    وعلاقة هذا الإنسان بالطبيعة هي علاقة العنف، وعلاقة القهر، وعلاقة الحرمان؛ ولذلك -كما ذكرنا- اخترعت في الفكر الغربي الإغريقي القديم أسطورة بروميثوس الذي سرق النار من الإله -والنار هي رمز الحضارة؛ لأنه أول ما انتقلت البشرية من العصر الحجري عن طريق الحديد واكتشاف الحديد، والحديد عن طريق النار، كذلك أول ما تغيرت طريقة الطهي والطبخ من مجرد أكل الشيء النيئ كما يزعمون، الإنسان باكتشاف النار أصبح يطبخ وهكذا- فالنار تمثل عندهم رمزية حضارية عميقة الدلالة، كون الإنسان كما يزعمون سرق النار ومع ذلك يعاقب عقوبة شديدة، ويحبس في غار، ويأتي جارح من الجوارح يأكل كبده كل يوم, وما أشبه ذلك كما تقول الأسطورة، هذا نوع من العقوبة؛ لأنه استطاع أن يحصل على شيء من النور أو العلم؛ هذا باختصار.
  2. النظرة الكتابية المحرفة لنشأة الإنسان والحضارة

    والنظرة الأخرى النظرة الكتابية -كما لاحظنا- وهي أن آدم عليه السلام لما خلقه الله تبارك وتعالى أراد أن يكون جاهلاً، وحرمه من شجرة معرفة الخير والشر التي إذا أكل منها أصبح حكيماً, وأصبح لديه فهم، والذي دله الشيطان -أو الحية كما يزعمون- على أن يأكل من هذه الشجرة، فلما أكل انفتحت عينه وأصبح عارفاً بالحقيقة، وهنا عاقبه الرب على ذلك -كما في النصوص المحرفة- فلما عوقب على ذلك أخرج إلى الأرض، واكتشف أنه عريان، فأخرج وطرد من الجنة عرياناً؛ لكنه أخذ من ورق التين ووضعه على عورته.
  3. ما تلتقي فيه النظرتان الخاطئتان لنشأة الإنسان والحضارة

    فالتقت النظرتان في أن الإنسان عاش مرحلة بدائية أو مرحلة همجية, أو مرحلة شديدة البعد عن الرقي والحضارة والفهم، وبتعمّد من الرب, وبتجهيل من الرب في حالة النظرة الكتابية المحرفة، وفي الحالة الأخرى أن الخالق -إن كان هناك من خالق فبعضهم لا ينفي وجود الله- تركه وأهمله سدى؛ فبالتالي التقت كلتا النظرتين في تجهيل الإنسان، وفي اختلاق العداوة بينه وبين هذا الكون وهذه الأرض وهذه السموات وهذا الخلق. وفي النهاية يمكن أن تتفق النظرتان؛ لأن الإنسان بذاته تطور، وقدم نفسه بنفسه، وكلما أخذ حظاً من هذه الدنيا فكأنما اغتصبه اغتصاباً من المالك الحقيقي الذي يملكه.